بغداد المدورة في الماضي اقترن اسمها بالسحر، كانت مدينة البساط السحري، مدينة
علاء الدين والمصباح السحري، مدينة الف ليلة وليلة والليالي الملاح ومدينة
الزق والراح والغزل والتشبيب وعروس دجلة، بغداد قال فيها على بن الجهم
(عيون المهى بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري). بغداد
مع عطرها واريجها التاريخي زودت العالم باعلى ماقام آنذاك به الطب
والفلسفة، لاول مرة في التاريخ تسجل بغداد التاريخ والطب والفلسفة مكتوبا
على الورق، وهي طفرة لم يحدث لها مثيل من قبل في التاريخ. كانت جميع
المدونات الحضارية التي تركها الاقدمون، مدونة على الحجارة او على الصخر او
على العظام او على الفخار او على البرديات او على رقوق الحيوانات، ولكن في
بغداد حدثت الطفرة الكبرى في التدوين، ففي بغداد انتج اعلى انواع الورق في
ذلك الزمن، كان ملائما لانتاج المخطوطات والوثائق بعد ان استعاروا بداياته
من الصين. في بغداد حدثت اعلى حركة في الترجمة التي لم تضاهيها ترجمة اخري
في التاريخ في ذاك الزمن البعيد اذ ترجمت من قبل المخطوطات اليونانية الى
السريانية ثم ترجمها السريان العراقيون الى العربية ومن ثم اصبحت مصادرا
للطب والفلسفة ثم انتقلت الى اوربا عندما ترجمت الى اللاتينية ثم اللغات
الاوربية المتعددة. في بغداد حدثت اعلى نهضة طبية عندما دعى المنصور،
جورجيس بن بختيشوع رئيس مدرسة الطب التي كانت قائمة في الاحواز العربية
جنوب ايران، فقامت آنذاك اعلى نهضة طبية في العالم شع سناها على اوربا.
اختار بنو العباس عاصمة لهم الهاشمية القريبة من الكوفة في بداية عهدهم
ولكنهم مالبثوا ان تركوا الهاشمية بعد قلاقل الراوندية والزنادقة فيها،
ورغبة العباسيين التملص من العهود التي قطعوها مع العلويين ومناصريهم التي
تعج بهم الهاشمية. فاختار الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور، الذي كان صلبا
شديد المراس، من ام بربرية من القيروان. اختار موقع بغداد عاصمة لدولته
على بطحاء من الارض عند التقاء دجلة ونهر
الصراة ونهر كرخايا، والموقع قريب من (المدائن) العراقية ومن ضمن نطاق
(براثا) الآرامية وكانت تضم عددا من الاديرة المسيحية. جعل المنصور بغداد
مدورة تختلف عن المربعة او الطويلة لانها اسهل في الدفاع. كانت المدن
المدورة سّنة عمرانية عراقية موروثة، على عكس المدن التاريخية في مصر. وهناك نقوش
آشورية تمثل المعسكرات المدورة ذات الطرق والمداخل المحورية التي أنشات في
زمن سلمناصر الثالث (858-824 ق.م) وسنكيريو في نينوى (705-687 ق.م) وفي
مدينة سنجرلي الموجودة شمال الموصل ومدينة أشور جنوبها ومدينة الحضر (القرن
الاول الميلادي) وكذلك حران شمال الجزيرة والمدائن القريبة من بغداد،
وبنيت الكوفة وواسط مدورتان. اسم بغداد له كثير من التفسيرات اهمها ما ذكره
البطريرك يوسف غنيمه لاطلاعة بالسريانية، منها (باغ- داد) وتعني عطية
اللإله (بغ) وهناك تعليل آخر له هو ان الـ (ب) تعني مدينة كبصراثا (البصرة)
وتعني بيت الاكواخ وبعقوبة وباطنايا وبامرني اما (كدادا) فتعني الغنم أي
ان بغداد تعني بيت الغنم. وهناك رقم بابلي طيني مفخور يذكر (بكددوا) او
(بغددوا) وهي اسماء ارامية ككلواذه (الكراده) وبدره وباكفيا. اسميت بغداد
بالزوراء بسبب ازورار نهر دجلة وانعطافه المفاجئ نحو
الغرب عند موضع بغداد. بناء بغداد المدورة من غير شك استمرار بتقنيات
البناء القائمة في العراق آنذاك منذ ان عرف وادي الرافدين قيام الدولة
المدينة ثم نال اعلى درجاته في الفن البنائي البابلي والاشوري. كان يحيط
اسوار بغداد المدورة خندقا بعرض 6 م ينهل ماؤه من نهر (كرخايا) واستخدم في
بناء الاسس خليط من الملاط
والنورة والرمل والرماد لمقاومة المياه ولكن السور لم يقف امام فيضانات
دجلة. يتكون السور من ثلاثة أسوار متتابعة الاوسط منها هو الاضخم والاكثر
سمكا وارتفاعاً وتعلوه القباب فوق اطواق المداخل لاغراض الدفاع. ويحيط بكل
سور فسحة فارغة لمهام الحراسة.
كان لبغداد المدورة اربعة ابواب هي باب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وباب خراسان. تعلو كل مدخل قبة عالية سامقة للمراقبة.
المرافق السكنية والخدمية للعامة تقع بين السورين الاوسط والداخلى، وبنيت
بيوت من طابق واحد حتى ثلاث طوابق تحيط بحوش سمائي وهذا ما أتذكرة في
البصرة والشناشيل على الخارج. أما مابعد السور الداخلي فيظم قصر الخليفة والمسجد وقصور الامراء وقصور أولاد الخليفة وخاصته ورجالات الدولة ثم الدواوين والمطبخ الحكومي العام.
في عهد هارون الرشيد (787-809 م) ازدهرت بغداد
وعلت مجدا فاصبحت عاصمة الدنيا، قصدها السفراء والشعراء والمدونون، قال
عنها الخطيب البغدادي (لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة