أرشيف انكور
موضوع بعنوان :مكان الاستعارة من البلاغة
الكاتب :Basil Abdallah


الكتاب: علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)




الاستعارة صورة من صور التوسع والمجاز في الكلام، وهي من أوصاف الفصاحة والبلاغة العامة التي ترجع إلى المعنى.
وإذا كان البلاغيون ينظرون إلى المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية على أنّها عمد الإعجاز وأركانه، وعلى أنّها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها، وتوجب الفضل والمزية، فإنّهم يجعلون المجاز والاستعارة عنوان ما يذكرون وأوّل ما يوردون.
وكما يقول عبد القاهر الجرجاني إنّ فضيلة الاستعارة الجامعة تتمثل في أنّها تبرز البيان أبدا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلا، وتوجب له بعد الفضل فضلا، وإنّك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد، حتى تراها مكررة في مواضع، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد، وشرف منفرد ...
ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها: أنّها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدّة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر ... (1).
__________
(1) أسرار البلاغة ص 32 - 33.

ومن خصائصها كذلك التشخيص والتجسيد في المعنويات، وبث الحركة والحياة والنطق في الجماد، وقد التفت الجرجاني إلى شيء من ذلك بقوله: «فإنّك لترى بها الجماد حيا ناطقا، والأعجم فصيحا، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية ... وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها، إن شئت أرتك المعاني
اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنّها قد جسمت حتى رأتها العيون، وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلّا الظنون، وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها» (1).
يقول الله تعالى في تصوير العذاب الذي أعدّه للكافرين به:
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟. (2)
«فالشهيق» في الآية الكريمة قد استعير «للصوت الفظيع» وهما لفظتان و «الشهيق» لفظة واحدة، فهو أوجز على ما فيه من زيادة البيان.
و «تميز» استعير للفعل «تنشق من غير تباين» والاستعارة أبلغ، لأنّ التميز في الشيء هو أن يكون كل نوع منه مباينا لغيره وصائرا على حدّته، وهو
__________
(1) أسرار البلاغة ص 33.
(2) الشهيق: أصله الصوت المزعج كصوت الحمار، والمراد به هنا «الحسيس» وهو الصوت الخفي الناشئ عن الفوران، وهذا الصوت يحدثه الله سبحانه في النار لشدة ازعاج الكافرين، وتميز: أصله تتميز، أي تتقطع وينفصل بعضها عن بعض، من الغيظ: أي من غيظها منهم، والكلام كله تمثيل لشدة غليانها انتظارا لهم، فوج: المراد هنا جماعة من الكفرة، والخزنة: جمع خازن، وهم الملائكة الموكلون بجهنم، وقد وصفهم الله في آية أخرى بأنّهم ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

أبلغ من الانشقاق، لأنّ الانشقاق قد يحدث في الشيء من غير تباين.
واستعارة «الغيض» لشدّة الغليان أوجز وأبلغ في الدلالة على المعنى المراد، لأنّ مقدار شدّته على النفس مدرك محسوس، ولأنّ الانتقام الصادر عن المغيظ يقع على قدر غيظه، ففيه بيان عجيب وزجر شديد لا تقوم مقامه الحقيقة البتة (1).
فالاستعارات هنا قد حققت غرضين من أغراض الاستعارة هما الإيجاز والبيان، كما تضافرت معا في رسم نار جهنم وإبرازها في صورة تنخلع القلوب من هولها رعبا وفزعا، صورة مخلوق ضخم بطاش، هائل جبار، مكفهر الوجه عابس يغلي صدره غيظا وحقدا.
فالاستعارة هي التي لوّنت المعاني الحقيقية في الآية كل هذا التلوين، وهي التي بثّت فيها كل هذا القدر من التأثير الذي ارتفع ببلاغتها إلى حد الإعجاز.
ومن خصائص الاستعارة المبالغة في إبراز المعنى الموهوم إلى الصورة المشاهدة كقوله تعالى في الإخبار عن الظالمين ومقاومتهم لرسالة رسوله:
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ على قراءة من نصب «لتزول» بلام كي.
«فالجبال» ههنا استعارة طوي فيه ذكر المستعار له وهو أمر الرسول، ومعنى هذا أنّ أمر الرسول وما جاء به من الآيات المعجزات قد شبه بالجبال، أي أنّهم مكروا مكرهم لكي تزول منه هذه الآيات المعجزات التي هي في ثباتها واستقرارها كالجبال.
فجمال المبالغة الناشئة عن الاستعارة هنا هو في إخراج ما لا يدرك
__________
(1) انظر كتاب الصناعتين ص 271.

إلى ما يدرك بالحاسة تعاليا بالمخبر عنه وتفخيما له إذ صير بمنزلة ما يدرك ويشاهد ويعاين.
وعلى هذا ورد قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ. فاستعار «الأودية» للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها، وإنّما خص الأودية بالاستعارة ولم يستعر الطرق والمسالك أو ما جرى مجراها، لأنّ معاني الشعر تستخرج بالفكر والروية، والفكر والروية فيهما خفاء وغموض، فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق لإبراز ما لا يحس في صورة ما يحس مبالغة وتأكيدا.
ومما ورد من الاستعارة في الأحاديث النبوية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تستضيئوا بنار المشركين» فاستعار «النار» للرأي والمشورة، أي لا تهتدوا برأي المشركين ولا تأخذوا بمشورتهم.
فرأي المشركين أمر معنوي يدرك بالعقل وتمثيله بالنار هو إظهار له في صورة محسة مخيفة يبدو فيها رأي المشركين نارا تحرق كل من يلامسها أو يأخذ بها. فالسر في قوّة تأثير هذه الصورة وجمالها راجع إلى مفعول الاستعارة، هذا المفعول الذي انتقل بالفكرة من عالم المعاني إلى عالم المدركات مبالغة.
ومن خصائص الاستعارة أيضا بث الحياة والنطق في الجماد كما ذكرنا آنفا كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فكل من السماء والأرض جماد تحول بالتوسع الذي هيأته الاستعارة إلى إنسان حي ناطق.
وكقول الرسول وقد نظر يوما إلى «أحد»: «هذا جبل يحبنا ونحبه»،

فجبل أحد هذا الجماد قد استحال بسحر الاستعارة إلى إنسان يجيش قلبه بعاطفة الحب.
كذلك من خصائصها تجسيم الأمور المعنوية وذلك بإبرازها للعيان في صورة شخوص وكائنات حية يصدر عنها كل ما يصدر عن الكائنات الحية من حركات وأعمال.
فأبو العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة يقول من قصيدة:
أتته الخلافة منقادة … إليه تجرر أذيالها
فالخلافة هنا تستحيل بفعل الاستعارة إلى غادة هيفاء مدللة تعرض عن جميع من فتنوا بها إلّا المهدي فإنّها تقبل عليه طائعة في دلال وجمال تجر أذيالها تيها وخفرا.
وأبو فراس الحمداني عند ما يقول:
ويا «عفتي» مالي؟ ومالك؟ كلما … هممت بأمر هم لي منك زاجر!
فما شأن عفّة أبي فراس؟ وما شأن الصراع الناشب بينها وبينه؟ إنّها تستحيل بلمسة من لمسات الاستعارة السحرية إلى إنسان يقف موقف الزاجر كلما هم الشاعر بأمر تراه العفة غير لائق به!
فهذه الصورة الرائعة الخلابة المؤثرة ما كانت لتكون لو أنّ الشاعر التزم في التعبير حدود الحقيقة وقال مثلا: «أنا لا أحاول ما يشين لأني رجل عفيف».
والأفلاك وهي جماد والدهر وهو أمر معنوي ما خبرهما في بيت البارودي الذي يقول فيه:
إذا استلّ منهم سيد غرب سيفه … تفرّعت الأفلاك والتفت الدهر

فكل من «الأفلاك» و «الدهر» قد تحوّل بالاستعارة إلى كائن حي حساس. فهاتان الاستعارتان قد أعانتا الشاعر على أن يرينا صورة الأجرام السماوية حية حساسة ترتعد خوفا وفزعا، وصورة الدهر إنسانا يلتفت عجبا وذهولا كلما استلّ سيد من قبيل الشاعر المشهود لهم بالشجاعة والفروسية سيفه من غمده!
هذه الصورة التي تموج بالحركة والاضطراب والحيوية والمشاعر المختلفة من فزع وخوف ودهشة هي وليدة الاستعارة التي بالغ الشاعر في استخدامها إلى حد يجعل المتملي لها يتولاه الذهول من هول المنظر الذي يراه ماثلا أمام عينيه!
...

وبعد ... فليس من قصدنا أن نعرض لكل صور الاستعارة وخصائصها وأغراضها، فهذا أمر يطول شرحه ويضيق المقام عنه هنا.
وحسبنا ما ذكرنا من خصائصها للإبانة عن مكانتها في البلاغة.
ولعلّ في هذا القدر ما يشوق الدارس ويستحثه للكشف بنفسه عن خصائصها الأخرى، والدور الذي تؤديه في صناعة الكلام وأثرها فيه.