أرشيف انكور
موضوع بعنوان :رسالة من ابليس تحت قصف الجمرات
الكاتب :Admin


بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة من ابليس تحت قصف الجمرات
".. بصراحة زادت المسائل عن كل حد وأصبحت أكبر من قدرتي على التحمل. 
أعرف أنه ليس من حقي أن أطلب منك شيئاً، لأنني فقدت هذا الحق يوم أن قررت التمرد عليك، لكن سيظل من حقي أن أعترض وأشكو وأسخط، حتى لو لم يكن لذلك أي جدوى. أعلم أن هذه الرسالة ستلاقي مصير الرسائل السابقة، ومع ذلك أكتبها ربما لأواجه نفسي بحقيقة مؤسفة، هي أنني لا زلت بعد كل ما جرى مشغولا بك، وأنني لم أحقق بعد ما تمنيته، بأن لا يكون كل ما أفعله مجرد رد فعل على طردك لي من جنتك. 
منذ زمنٍ بعيد توقفت عن التعامل مع ابتهاج عبادك في كل موسم حج برجمي بالحجارة والأحذية والبصقات، بوصفه إهانة شخصية تستحق الأسى والحسرة، كنت في البداية أتجرع مرارته كيومٍ كئيب سيعبر مثل غيره، حين يتوهم عبادك أنهم حققوا انتصارا عليّ وعلى ذريتي، ليعود كل منهم إلى حيث أتى متصوراً أنه تقرّب إليك على حسابي، ونال رضاك بعذابي، لكن لا بأس، سيكون لديّ السنة بطولها، لأجعل عبادك يدفعون ثمن ذلك الغل غاليا. 
نعم كنت أفكر بهذه السذاجة، لأنني لم أكن قد عرفت الكثير عن تلك الكائنات الحقيرة التي فضلتها عليّ، لكن ذلك تغير عندما بدأت مع مرور الوقت أعتاد ألم ذلك اليوم، وأصبحت لدي القدرة على النظر في وجوه أولئك القاذفين الباصقين اللاعنين، لأختار أكثرها غِلّا، لأتذكره لعلي أبدأ بتصفية حسابي معه فيما بعد، وقد كان ذلك أفضل قرار اتخذته في حياتي، فقد رأيت حينها وجوها كنت أعرفها جيدا، ليس لأن بها شيئا مميزا يسر الناظرين، فأنا حتى الآن لا أفهم كيف تكون هذه أحسن صورة يمكن أن يكون عليها مخلوق من مخلوقاتك، لا زلت أعتبر طائر الكناري أو زهرة البنفسج أو ذكر القُندُس، أو حتى أنثى الخنفساء المرقّطة أفضل وأجمل وأجدى ألف مرة، لكن ليس هذا موضوعنا الآن.
ماذا كنت أقول؟ آه، كنت أقول أنني مع أول مرة نظرت في وجوه المتحمسين لرجمي، رأيت وجوهاً أعرفها جيداً، لأن أصحابها فعلوا أمام عينيّ أشياء أخجل أنا شخصيا من التفكير فيها فضلا عن فعلها، دون حتى أن يمتلكوا شجاعة المواجهة والإعتراف بعصيانهم لك، كما فعلت أنا حين واجهت الجميع برفضي طاعتك، وتحملت ثمن ذلك بكامل إرادتي، أما هم، عِبادك، فقد كانوا كلما تم مواجهتهم بأفعالهم، يُسارعون برمي "بلاهُم" عليّ واتهامي أنني الذي حرضتهم على خطاياهم، برغم أنني كنت أراقبهم مذهولاً أثناء قيامهم بها، متسائلاً حينها: كيف ومن أين أتتهم هذه الأفكار الشنعاء، وأعترف أنني كنت دائما أجد نفسي عندها أفكر فيك، سائلاً نفسي عن رد فعلك على ما تراه، خاصة وأنت تعلم أنني لا علاقة لي بما يفعلونه، فأتمنى أن يعود لي الحق ثانية في مواجهتك لأسألك: هل كان هذا الصنف الردئ يستحق انحيازك له؟ ثم أشعر بالحزن لأنني لا زلت أفكر فيك بعد كل هذا العمر، فأحاول نسيان حزني بالغرق في بهجة الشماتة، لكن تلك البهجة لا تدوم حين يتملكني شعور بالغضب من نفسي، لأنني لم أعد قادرا على إدهاشك بقدرتي على الشر، وأنني أصبحت مطالبا بأن أتفوق على كائنك المفضل، لكي لا يسلب مني ما بقي لي من تميز واستثنائية.  
منذ أن أدركت ذلك كلّه، لم يعد رمي الجمرات يضايقني أبداً، على العكس، أصبحت ساعاته تمضي سِراعاً في السخرية من كذب القاذفين، والتفكير في طريقة لفضح كل منهم على حقيقته، صحيح أنني أرى أحيانا قلة صادقة مندسة وسط جموع الراجمين، فيؤلمني فشلي في إقناعها بأن تكون كما أُحِب، وحرصها على أن تكون كما أحببت أنت، لكنني أتجاوز هذا الألم بتذكر كلام أعجبني، حين سمعت بعض عبادك يرددونه في مناسبات متفرقة، كلاماً من نوعية "الشجرة المثمرة تُقذف بالحجارة ـ الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك ـ الصبر مفتاح الفرج ـ الشتيمة ما بتلزقش".
بالأمس مثلا ظللت أردد عبارة أعجبتني حين سمعتها من رئيس مصري تقول: "زمان لما كنت صُغيّر كنت باقول للي بيضربوني بكره أكبر وأضربكم"، أخذت أرددها وأنا أضحك من أعماق قلبي، متخيلا نفسي وأنا أقوم بتقييد كل شخص رماني بجمرة أو حذاء أو حصاة، وأقوم برجمه وأنا أسبه وألعنه، وأتهمه بأنه سبب كل مصائبي وكوارثي ونكباتي، وحين "شرِقت" من فرط الضحك، وجدت نفسي أقول عبارة كنت قد نسيتها من زمان: "اللهم اجعله خير". 
وما حسبته لقيته، فما إن هدأ ضحكي، وعدت لتأمل وجوه الراجمين، حتى أفزعني أن أجد بينهم هذا العام وبشكل أكثر من كل الأعوام السابقة، حُجّاجا كثيرين لا يقومون هذه المرة بسبي ولعني في لحظات الرجم، بل يقومون بسب ولعن حكامهم ورؤسائهم، بدعوى أنهم يعملون لدي ويأتمرون بأمري حين يقومون بقتل مواطنيهم من أقارب وأحباب ومعارف هؤلاء الحُجّاج، وأعترف أن هذه كانت أكثر لحظة شعرت فيها بالإهانة في حياتي، ولذلك كان لا بد أن ألجأ إليك لعلك تتدخل وتأمر عبادك بأن يتذكروا من كنت حين كنت أنعم برضاك، لأن من المفزع والمهين لي، أن يتصور هؤلاء أن مخلوقاً بعقلي ومهارتي وعبقريتي وكفاءتي، يمكن أن يستعين بخدمات مجموعة من عديمي الخيال والموهبة والكفاءة، فليتك تقول لعبادك أن هؤلاء الذين نصّبوهم حكاماً، لا يُشرّفني حتى أن ينظفوا فضلاتي أو يحملوا حذائي، فضلاً عن أن تكون بيني وبينهم علاقة عمل من أي نوع، ليتك تقول لهم أن يختاروا اتهامات منطقية لكي يتم نسبتها لي، فحتى أنا برغم كراهيتي لهم فرداً فرداً، أجد مسألة القتل الجماعي مُنفِّرة للغاية، لأنها تفتقر إلى أي خيال، ولا تبعث أبداً على البهجة.
قل لهم إنني يمكن أن أضيع وقتي بمنتهى الرضا مع قاتل تسلسلي، يستمتع باختيار ضحاياه وتعقبهم وقتلهم وإخفاء جثثهم، أو مع شخص طموح يخطط لجريمة قتل معقدة يفلت بعدها بفعلته ويستمتع برؤية الجميع يبحثون عنه دون جدوى، لكن أين هي البهجة في أن أقتل عشرات الآلاف جهاراً نهاراً، لمجرد أن أبقى محاطاً بحرسي بين جدران قصري، خائفاً من كل ما يحيط بي، وما هي اللذة التي يمكن أن أشعر بها حين أقتل مئات الأشخاص، لمجرد أن أقوم بإخلاء ميدان تافه شديد القبح لكي أنعم بنشوة السيطرة التافهة؟وأين هي الشجاعة في أن أرى رأساً تتدحرج أمامي وأنا أهتف مكبراً مهللاً باسمك؟ أو أن أكمن في مخبئي كالفأر المذعور، لأستمتع برؤية الأشلاء الناتجة عن قنبلة زرعتها؟ وما هي أهمية أن أقتل أو أن أُقتل، لمجرد أن يظل أهطلٌ ملتحي أو حليق الذقن على كرسي الحكم؟
ثم إذا كان كل هذا القتل يبهج عبادك ويمتعهم، أو يشعرهم بالأهمية والعظمة لأنهم يعبثون بحياة مخلوقاتك، فما شأني أنا بكل هذا؟ ولماذا لا يمتلك عبادك القدرة على مواجهة أنفسهم بأنني لا يمكن أن أكون مسئولاً عن هذا الجنون ثقيل الظل عديم الخيال؟ ولماذا لا يستطيعون أن يواصلوا حياتهم متحملين لمسئولية أفعالهم، بدون أن يجعلوني المسئول عن الجحيم الكئيب الذي صنعوه في الأرض التي خلقتهم لعمارتها، لست محتاجا لأن أخبرك أنني فكرت أن أضع "سمايلي فيس" بعد عبارة (خلقتهم لعمارتها)، فأنت تعلم أنني تراجعت عن ذلك، لأن مجرد إظهار شماتتي بمثل هذه السخرية سيجعلني أبدو أنني مكترث للغاية بموقفك، لذلك فضّلت أن أحاول إقناعك أنني لا أكترث، مع أنك تعلم أنني مكترث، لكن هذا ليس مهماً الآن، المهم أن أؤكد لك أنني لا أطلب من عبادك أن يكُفّوا عن النفاق والكذب، فهم يكذبون عليك وأنت كفيل بهم، ولا أتصور أن هناك أملا في إقناعهم بهذه الأفكار لأن الرد عليها سيكون بعبارات أكثرها تهذيباً: (الشيطان يعظ)، وسأضطر للدخول معهم في جدل سوفسطائي عقيم يهدف إلى إثبات طهرهم وتأكيد عُهري، فهي عادة عبادك ولن يشتروها، وأنا لست أطلب منهم أن يتغيروا من أجلي، لأنهم لو كانوا قابلين للتغير لتغيّروا من أجلك، بدلا من أن يظنوا أن مجرد رجمهم لي، سيحل مشاكلهم ويقربهم إليك، لست أطلب منهم سوى أن يتحلوا أثناء كذبهم ونفاقهم ببعض الخيال وبعض الشرف، فهل هذا كثير؟". 
...
فصل من كتاب جمهورية العبث)
نشر بتاريخ 7 أكتوبر 2014